في خارج الحديقة
جاء الربيع، فلاحَ على فروع أشجار الصفصاف الدقيقة، لون أصفر خفيف. وكان بين صفّي أشجار الصفصاف ترعة لا نعرف من ملأها بالماء الأخضر النقيّ، حتّى كاد يفيض من جانبيها. وظهرت صورة الصفصاف في الماء واضحة جليّة، وعلى جانبيّ الترعة نبتت الحشائش الخضراء الكثيفة، فاتّخذتها الأسماك الصغيرة بيوتًا لها، وانتشرت روائح التراب والماء، فإذا شممتها عرفت أنّها من روائح الربيع، وأرسلت الشمس أشعّتها فوق الترعة وشاطئها، فأوحت إلى كلّ موجة وكلّ حصاة المرح والسرور.
وبجانب شاطئ الترعة وتحت فروع الصفصاف، طريق مرصوفة، تسير عليها عربات جميلة فاخرة. وفي تلك العربات يجلس الناس الذين امتلأت قلوبهم بالفرح والسرور، فمنهم رجال سمان، ونساء عجائز، وفتيات حسان، وأطفال ظرفاء، ويمدّ هؤلاء الناس وجوههم الباسمة إلى خارج العربات، ويرسلون أشعّة السرور من عيونهم إلى خضرة الصفصاف أو إلى مياه الترعة الرقراقة، وأحيانًا يرفعون أنوفهم ليتنفّسوا هواء الربيع الطلق، ويشمّوا عرف الأزاهير الذكيّ، وعند ذلك تظهر آثار الارتياح على وجوههم، فيتحرّك اللّحم في خدود الرجال السمان ويسترسل، وتطبق العجائز أجفانهنّ المتجعّدة، ويفتحن أفواههنّ الجافّة الخالية من الأسنان فتحًا كبيرًا، وتحرّك الفتيات الحسان مناديلهنّ بنظام ويغنّين غناءً رائعًا؛ ويرقص الأطفال الظرفاء طربًا، ويبسطون أيديهم، يريدون أن ينزلوا من العربات ويضحكون ضحكًا شديدًا. وقد سال العرق من أجسام الخيول كالينابيع، وتنفّس الناس الذين يجرّون العربات تنفّسًا مؤلمًا، وتعبت الآلات البخاريّة في العربات تعبًا كثيرًا، وخرجت منها أصوات خشنة، ولكنّ الجالسين في العربات لا يهتمّون لشيء من ذلك، وإنّما شغلتهم المناظر الجميلة، وأعماهم عن كلّ ذلك الضحك الشديد.
وإلى أين يذهب هؤلاء المترفون... إنّ في جانب منحنى الترعة حديقة، تستيقظ من سباتها حين يقبل الربيع، ويظهر شكلها الجميل البديع رائعًا من جديد، وتنشر روائحها الطيّبة في كلّ أرجائها، وتنبعث الطيور مغرّدة على أشجارها بأعذب الألحان المطربة، وتصبح الحديقة كمصرف للفرح والسرور، فتجذبهم إليها، مع أنّ الفرح والسرور يملآن قلوبهم، ولكنّهم يذهبون إليها كما يسيل ماء النهر إلى ماء البحر العريض.
منذ ثلاثة أيّام وقف الصبي "تشان" في خارج الحديقة، وكان قد سمع حديث جيرانه عنها، واطراءهم لجمالها الذي ضاهى جمال الفردوس، وأحبّ أن يجول فيها، وأراد أن يخبر أباه بذلك، ولكنّه لم يستطع أن يقابله. فأخبر أمّه التي كانت تغسل الثياب للناس باكرًا لتتمكّن من العيش، فتظلّ طول اليوم مع الماء، جسمها مبتلّ، ويداها تورّمتا لعملها المستمرّ. ولمّا سمعت كلام ولدها غضبت قائلة: "أنت تجول في الحديقة وهل يليق بمثلك أن يجول في الحديقة"؟ واستمرّت في غسل الملابس، ورشاش الماء يطير حول جسمها.
لم يجرؤ "تشان" على أن يتكلّم في هذا الموضوع أمام أمّه مرّة ثانية، ولكنّه لم يفهم كلامها، وقال في نفسه "لماذا لا يليق بي أن أتجوّل في الحديقة، ومن يليق به أن يتجوّل فيها إذًا"؟! وما زال شاكًّا في كلامها.
وكانت الحديقة الجميلة تجذب قلب "تشان" الصغير بسحرها، فذهب إليها، وهو لا يكاد يشعر، ووقف خارج بابها الكبير، وكان مفتوحًا على مصراعيه، فرأى داخلها أشجارًا خضراء كثيفة كثيرة، فحدّثته نفسه قائلة: "ليس بينك وبين هذه الأشجار حواجز، وليس بجوارها إنسان ولا غير إنسان، فلِمَ لا تدخل الحديقة وتجول فيها"؟ فكان جوابه أن اندفع داخلًا.
ولكنّه لم يكد يجتاز الباب حتّى شعر بأنّ شيئًا ثقيلًا شديدًا أمسك بساعده الأيمن، وأراد أن يتخلّص منه فلم يتمكّن من ذلك، وأدار رأسه حين سمع صوتًا يقول "مع من"؟ فأجاب "تشان" بعد جهدٍ قائلًا: "معي أنا"، فضحك الرجل صاحب الصوت لهذه الكلمة ضحكًا زاد وجهه المخيف قبحًا وقال: "إذا جئت وحدك هنا يجب عليك أن تبتاع تذكرة لتدخل".
فقال "تشان": "لا أريد أن أبتاع تذكرة، وإنّما أريد أن أجول في الحديقة"، وأراد أن يهرب من يد الرجل، فغضب الرجل وزادت أشعّة عينيه التهابًا واتّسعت حمرة أنفه وصاح قائلًا: "أيّها الأحمق تريد أن تجول في الحديقة مجّانًا، ابتعد من هنا". ودفع "تشان" إلى الأمام دفعة شديدة، فتقهقر على عقبيه خطوات، وترنّح جسمه يمنة ويسرة ثمّ هوى على الأرض باسطًا يديه، فضحك سائقو العربات الواقفون بجوار باب الحديقة ضحك السكارى.
ولمّا سمع "تشان" الضحكات خجل وقام من سقطته ببطء، وتسلّل من مكانه هاربًا إلى منزله. ولمّا وصل إلى المنزل وجد أمّه ما زالت تغسل الثياب، فلم تسأله عن شيء ولم يخبرها بكلمة واحدة.
وكانت الحديقة الجميلة التي ضارعت الفردوس تجذب قلب "تشان" الصغير فجعلته لا يستطيع أن يبقى في المنزل زمنًا طويلًا، فخرج وذهب إليها، وهو يكاد يشعر كأنّها سحر يسحره، وقضى نهاره جائلًا خارج الحديقة. ولمّا ذهبت العربات كلّها وأرخى اللّيل ستاره، وظهر من حجرة الرجل الطويل نور ضعيف، رجع إلى منزله، ولمّا أصبح صباح الغد ذهب إلى الحديقة وأخذ يذرع الطريق جيئةً وذهابًا أمام الباب كما فعل بالأمس.
وبينما هو يمشي أمام الحديقة جاءت إليها عربة خيل ووقفت أمام بابها، ثمّ نزل سائق وفتح باب العربة فنزل منها سيّد وسيّدة ومعهما طفلان، ونظر "تشان" إلى الطفلين ولم يهتمّ بغيرهما، وحينئذ حدّثته نفسه قائلة "انظر إلى هذين الطفلين، إنّهما يلبسان الأردية الجميلة اللّامعة، والجوارب الطويلة، ما أشدّ حمرة وجهيهما والتماع شعور رأسيهما، انظر، إنّهما دخلا الحديقة في فرح ومرح ولا أحد يعترضهما، فأين الرجل الطويل إذًا؟ لماذا لم يخرج من حجرته ويمسك بساعديهما ويرميهما إلى خارج الحديقة. انظر، لقد سارا بجوار الأشجار الخضراء الكثيفة الكثيرة وذهبا إلى داخل الحديقة..." عجبًا! وتراءى له كأنّه تبع الطفلين ودخل معهما الحديقة وسار بجوار أشجارها.
إنّ أشجار الحديقة كثيرة، بعيدة، كبيرة، طويلة، وسكن عليها السنجاب يلعب ويرقص بين فروعها، والقردة ذات الوجوه الحمراء تجلس عليها أو تتعلّق بها، ولمّا رأى "تشان" فواكهها الجميلة المختلفة الألوان قال في نفسه "عجبًا لي كيف توجد هنا الفواكه الحمراء والصفراء والبنفسجيّة التي كانت في الدكاكين".
وما أن رفع يده وهمّ أن يقطف الفواكه حتّى جاءت عربة تجرّها الدمى ومرّت بجواره وصدمته، فانتبه لنفسه ورأى أنّه لم يزل واقفًا خارج الحديقة ولم يدخلها.
واحسرتاه، أين قطع الحلوى، وأين الفواكه الحمراء؟ لم يبق إلّا طعمها اللذيذ في فمه؛ ونظر إلى داخل الحديقة فلم ير شيئًا إلّا الأشجار الخضراء الكثيفة الكثيرة، ولكنّه سمع أصوات الموسيقى تخرج من بينها، فقال: "هذا صوت الطبل ضخم رائع، وهذا صوت البوق قد استطال كصوت الجاموس، وذاك صوت المزمار الطويل، كبير رفيع كأنّه يقود الأصوات الأخرى، وصوت ضرب الفولاذ والحديد أجمل من صوت الحديد الذي يضربه الحدّاد، وربما تكون هذه الأصوات من عزف فرقة موسيقيّة للجوّالين في داخل الحديقة، أظن أنّ وجه عازف البوق ينتفخ جدًّا كقربة الماء، وعازف المزمار...
فغنّى "تشان" مع الفرقة، وكأنّ الموسيقى تتبع غناءه، وها هو يقود الفرقة الموسيقيّة، وكأنّهم يسيرون بين أرجاء الحديقة، وهو يوجّه إليهم نداءه "سيروا إلى الأمام".
وهمّ أن يرفع يده ليقود الفرقة إلى جهة، فصادف خروج الطفلين من الحديقة، فدفعاه دفعة جعلته يدور على نفسه، ويفيق من غفوته، ليرى أنّه لم يزل واقفًا خارج الحديقة ولم يدخلها.
وتبع "تشان"، بنظرة حزينة، عربتهما التي راحت تبتعد، وهو يقف متخيّلًا الحديقة التي لم يدخلها مع أنّ بابها الكبير مفتوح على مصراعيه.
مجلّة الثقافة عدد 329
ترجمة عبدالله ما جي كو
للكاتب الصينيّ ياه شاو كين